التكنوقراط 3. منهج التكنوقراط

وجدنا سابقا أن الحوكمة الشاملة تعتبر أن الناس لا يستطيعون إدارة أنفسهم بأنفسهم، ولذلك فهم بحاجة إلى من يديرهم، وأن طريقة الإدارة التي تقترحها الحوكمة الشاملة طبقية تدير الناس من القمة إلى القاعدة. هذا التفكير ليس جديدا، فهناك من اقترح سابقا أن يدير الكهنة ورجال الدين المجتمعات، وهناك من اقترح سابقا أن يدير الفلاسفة المجتمعات، وهناك من اقترح سابقا أن يدير العمال والفلاحون المجتمعات، وهناك من اقترح أن يدير السياسيون المجتمعات.

في عصرنا الحالي، تدار أغلب المجتمعات من قبل سياسيين أو عسكر مدعومين من الأغنياء ورجال الدين، وقد ظهر هذا النمط في الإدارة مع الثورة الصناعية على أنقاض نظام النبلاء الذي كان سائدا في العصور الوسطى. واجه هذا النظام مشاكل اجتماعية واقتصادية كثيرة، وأكبرها كان مشكلة الكساد الكبير في أواخر العشرينات وبداية الثلاثينات من القرن العشرين. تلك الفترة شهدت ظهور وانتشار عدة مدارس فكرية، وأحدها فكرة التكنوقراطية.

حسب مجلة التكنوقراطي عدد سبتمبر 1937 (المصدر)

“التكنوقراطية هي علم الهندسة الاجتماعية، التشغيل العلمي لآلية المجتمع بكليتها لإنتاج وتوزيع المنتجات والخدمات لكافة سكان هذه القارة. لأول مرة في التاريخ البشري سينفذ ذلك كمسألة علمية، تقنية وهندسية. لن يكون هناك مكان للسياسة والسياسيين، للمال والماليين، ولا للابتزاز والمبتزين”

وفي منهاج دراسة التكنوقراطية (المصدر) نجد مجموعة دروس حول الهندسة العلمية للمجتمعات تبدأ بتحديد مسلمات التكنوقراطية، والتي تقول

  • العالم الخارجي هو كذلك

  • الطبيعة منتظمة

  • العقل يحوي ترميزا للعالم الخارجي.

وإضافة لذلك نجد دروسا حول أساسيات العلوم ووحدات القياس وقوانين التيرموديناميك ونظريات المحركات، ويتحدث الفصل السادس عن الإنسان بصفته محركا يستهلك الطاقة لينتج شيءا ما، ويجد أن كفاءة الإنسان كمحرك هي 25% لأنه لا يمكن إيقاف هذا المحرك عن العمل، فهو يستهلك طاقة بدون إنتاج حتى عند الراحة، وأن هذه الكفاءة تصل إلى صفر عندما لا ينتج الإنسان أي شيء، أي عندما يرتاح الجسم.

يعتبر المنهاج أن الكائنات الحية هي أجهزة مستهلكة للطاقة، وفي الدرس الثامن نجد نظرية عن التوازن الطاقي بين النباتات والحيوانات تعتبر أن الإنسان مثل أي حيوان كالذئب مثلا خاضع لهذا التوازن.

بعده نجد عدة دروس عن الثورة الصناعية واستخدامها للطاقة، وعن النمو الصناعي واستخدام الموارد الطبيعية.

في الدرس الخامس عشر نجد نظرية التكنوقراط عن نظام التسعير، وفيه نلاحظ اعتبارهم أن الملكية الفردية مجرد بنية اجتماعية، فبالنسبة لهم، امتلاك الشخص لمنزل يعني أن الشخص يخضع لما يسمح له المجتمع أن يفعله في هذا المنزل، فالملكية الحقيقية للمجتمع وليست للفرد، والتجارة هي تبادل حقوق الملكية التي يسمح بها المجتمع.

وبعد بضعة دروس عن الاقتصاد والبيولوجيا الحيوية للحيوان البشر نصل إلى تصميم نظام التكنوقراط في الدرس الحادي والعشرين، وفيه يتم الحديث عن منظومة للتوزيع من متطلباتها:

  1. يتم تسجيل كافة عمليات تحويل الطاقة بشكل مستمر على مدى 24 ساعة

  2. إنشاء موازنة للطاقة التي تم استهلاكها وللطاقة التي تم إنتاجها

  3. عمليات جرد مستمرة لعمليات الاستهلاك والإنتاج

  4. عمليات جرد مستمرة لكافة أنواع السلع والخدمات المتاحة للاستهلك وللإنتاج

  5. عمليات جرد مستمرة لاستهلاك كل فرد، مع توصيف لهذا الفرد.

  6. السماح لكل مواطن باستهلاك حصته من الثروة القارية كما يريد.

  7. توزيع المنتجات والخدمات على كل السكان.

يتابع المنهاج تصميم عمليات الإدارة والتشغيل الصناعية بناء على إنتاج واستهلاك الطاقة ثم يسرد مجموعة من الجداول والإحصائيات في مرفقاته.

هذه الوثائق تقول أن فلسفة التكنوقراط لا تعترف بالدول، فخططهم تشمل القارات وليس الدول، وتقول أن التكنوقراطيين يعتبرون أن السياسيين والبيروقراطيين سبب فشل إدارة المجتمعات، ولذلك فمشروع التكنوقراط يشمل إلغاء دور الساسة والبيروقراط واستبدالهم بنظم إدارة آلية. وأسوأ ما في فلسفة التكنوقراط هو نظرتهم للإنسان، فهم يعتبرون الإنسان مجرد آلة من آلات الإنتاج، ونظرتهم للبشر تشبه نظرة الفلاحين للدواب في القرون الوسطى، مع اختلاف بسيط، فالتكنوقراط يعتبرون أن حصة الإنسان من الطاقة (أي التدفئة والنقل والغذاء والخدمات) تتناسب مع إنتاجه، ولذلك لديهم منهج متخصص للتعامل مع البشر كأحد موارد الإنتاج يسمونه "الموارد البشرية".

في القرن الماضي لم تكن متطلبات نشوء التكنوقراطية متاحة لأن تقنيات الرقابة والتحكم لم تكن تسمح بإجراء جرد لحظي على كل موارد المجتمعات، ولا بإدارة استهلاك الموارد مركزيا بشكل لحظي، ولكن هذه التقنيات متاحة الآن، فقد اكتمل وضع شبكة الرقابة عبر نشر كاميرات المراقبة في كل مكان في العالم، وعبر نشر كل أنواع الحساسات في كل مكان بما في ذلك في شبكات الصرف الصحي. ويتم حاليا وضع تقنيات التحكم والإدارة موضع التنفيذ مع التقنيات التي يتم نشرها تحت غطاء كوفيد او بحجة حماية صحة البشر، وأحدها تقنية جواز السفر المناعي.

باستخدام الحوكمة الشاملة يتم إلغاء سيادة الحكومات والسياسيين التقليديين على المجتمعات، وتحويلهم إلى منفذين لسياسة التكنوقراط، وهي مرحلة مؤقتة في الطريق إلى تحويل إدارة المجتمعات إلى عملية آلية تتحكم بها برامج وخوازميات وآلات متخصصة بذلك ليست جاهزة حاليا. وهكذا يساهم السياسيون والبيروقراطيون المنخرطون في مشروع التكنوقراط في عملية إزالة الحاجة إلى عملهم من الوجود، وفي التحضير لإلقاء إعمالهم في حاوية النفايات.

تبدو فلسفة التكنوقراط للوهلة الأولى منطقية، أنا لا أستطيع الدفاع عن السياسيين ولا عن البيروقراطيين، كما لا يمكنني انتقاد نظرتهم العلمية. أعتقد أن هناك مشكلتين أساسيتين في التكنوقراطية، المشكلة الأولى هي نظرتهم للبشر. هؤلاء الناس يعتبرون البشر مجرد آلات إنتاج، وأن قيمة الإنسان تتناسب مع إنتاجه، ومن ينتج أكثر يحصل على حصة أكبر من الطاقة، أما من لا ينتج لسبب ما، فلا يحصل على الطاقة، والطاقة بالنسبة لهم لا تشمل التدفئة أو النقل فقط، بل تشمل الغذاء. في فلسفتهم الإنسان الذي يرتاح أو يخضع للعلاج لا يحتاج نفس كمية الغذاء التي يحتاجها الإنسان الذي يعمل، وهم يخططون لإدارة توزيع الغذاء بهذه الطريقة.

المشكلة الثانية التي أراها تنبع من المسلمة الثانية للتكنوقراطية، وهي تجاهل التكنوقراط لكون الطبيعة منظومة معقدة complex system واعتبارهم أن المنظومات المعقدة تدار بنفس طريقة إدارة المنظومات البسيطة. نظرية النظم المعقدة تقول أنها تخضع لتأثير الفراشة، أي أن تغييرا طفيفا في مكان ما قد يسبب انهيارات متتالية تغير بشكل جذري طبيعة النظام المعقد. تعتبر الإدارة المركزية للنظام المعقد فكرة سيئة جدا حسب نظرية النظم المعقدة، في حين تبنى التكنوقراطية على أساس الإدارة المركزية للقارة الأمريكية، وبتطبيقها الحالي يتم تصميم إدارة مركزية للعالم كله وللطبيعة بمجملها بما فيها الفضاء وأعالي البحار كما وجدنا في الحلقة السابقة.

ما رأيك في أن يتعامل معك سادة المجتمع كآلة، كأداة إنتاج؟ هل ترغب أن تعيش في مجتمع من هذا النوع؟ هل تعتقد أن من حق بعض الناس تحديد نوع وكمية طعامك، وأين تعيش وما تفعله خلال يومك؟ ثم فرض كل ذلك عليك عبر آلات وخوارزميات لا يمكنك الاحتجاج على قراراتها؟ وهل تعتقد المهندسين والعلماء قادرون على إدارة الطبيعة؟

أنا أرفض ذلك ولا أثق بقدرة أي أحد على إدارة الطبيعة، بل أعتقد أن الطبيعة مجموعة هائلة من النظم غير المتناسقة وبالغة اللامركزية ولا يمكن إدارتها بشكل مركزي، ولذلك أعتقد أن الطبيعة ستقاوم التكنوقراطية وتسقطها ببساطة. وأعتقد أن تأثير الفراشة سيلعب دورا كبيرا في حسم المعركة الدائرة حاليا للسيطرة على البشر، فعدد الناس الذين يرفضون الخضوع في ازدياد. هؤلاء الناس كانوا خاضعين للسياسيين والبيروقراطيين وهم الآن يرفضون التكنوقراط، وأعتقد أن تأثير الفراشة على وشك التحقق، وأن اليوم الذي يقول فيه شخص إضافي في مكان ما "أنا أرفض الخضوع" فيسبب انهيارا كاملا في النظام العالمي الجديد أصبح قريبا.

أنا أعلنت موقفي، أنا أرفض الخضوع، فماذا عنك أنت؟

الأيهم صالح

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

دعوة للمشاركة

موقع الأيهم صالح يرحب بالمشاركات والتعليقات ويدعو القراء الراغبين بالمشاركة إلى فتح حساب في الموقع أو تسجيل الدخول إلى حسابهم. المزيد من المعلومات متاح في صفحة المجتمع.