من السهل أن يتبنى الإنسان موقفا أو رأيا، اسأل أي شخص تقابله عن أي موضوع وستحصل على رأي ما أو موقف ما. أصلا أصبح من السهل زراعة المواقف والآراء في عقول الناس، بحيث أن الآراء التي تحصل عليها من الناس تكون غالبا آراء تم تشكيلها بالريموت كونترول عبر الإعلام أو الشبكات الاجتماعية أو عبر تأثير الأقران.
ولكن من الصعب جدا أن يتبنى الإنسان موقفا بناء على معلومات موضوعية، ومن شبه المستحيل أن يتبنى الإنسان موقفا بناء على حقائق. أنا أواجه هذه الصعوبة دائما في حواراتي، ومؤخرا جاءتني الكثير من الأسئلة عن اللقاحات، ويسألني كل شخص أحادثه حاليا عن موقفي من ما يحصل في أوكرانيا. أنا لم أختبر اللقاحات ولا أعرف ما محتوياتها ولا أعرف كيف تعمل، أصلا كل ما يصلني عنها هو أخبار إعلامية وليس معرفة أو معلومات. أنا أدرك أنني لا أعرف شيئا عن هذه اللقاحات الجديدة، ولذلك ليس لي رأي شخصي فيها، وموقفي منها هو أنني لا أرغب باختبارها على نفسي أو أولادي.
أيضا أنا لا أعرف ما يحصل في أوكرانيا، أنا لم أعش في الدونباس ولا أعرف معاناة أهلها خلال سنوات الحصار والقصف الأوكراني، ولم أعش في كييف ولا أعرف معاناة أهلها تحت الحصار الروسي. أنا لا أعرف كيف يفكر سياسيو أوكرانيا وروسيا، وكل ما يصلني منهم هو أخبار إعلامية مترجمة عن لغة لا أفهمها ولذلك فأنا لا أثق بها ولا أعتبرها معلومات.
عندما لا نجد معلومات، يمكن أن نبحث عن ما يتفق حوله الأطراف المتخاصمون. أعتقد أن الروس والأوكرانيين يتفقون حول وجود معارك مستمرة منذ 2014 في منطقة الدونباس بين القوات الأوكرانية وانفصاليين روس في تلك المنطقة. يعتبر الأوكرانيون أنهم يحاربون غزوا روسيا للدونباس، بينما يعتبر سكان الدونباس ذوو الأصل الروسي أنهم يريدون الاستقلال عن أوكرانيا ويدافعون عن حريتهم.
يمكن أن نضيف أن بعض الأوكرانيين يكرهون الروس ويعبرون عن ذلك صراحة، بينما يعتبر بعض سكان الدونباس أن من يحاربونهم من الأوكرانيين نازيون جدد، وهم يكرهون النازيين ويعبرون عن ذلك صراحة. ويبدو أن بروباغاندا الطرفين تسترجع أحداث الحرب العالمية الثانية لتعزيز مشاعر الكره المتبادل بين السكان.
عندما لا تتوفر المعلومات، يمكن في بعض الحالات أن نبني مواقفنا استنادا إلى المبادئ. بناء المواقف المبدئية أكثر صعوبة بكثير من بناء موقف بناء على معلومات، وكثيرا ما يؤدي إلى انحيازات أحاول تجنبها. في هذه المقالة سأحاول أن أشرح طريقة تفكيري حول ما يحصل في أوكرانيا، وهي كما سترون مواقف مستندة على مبادئي وليس على معلومات حول ما يحصل، ولذلك فهي مواقف معرضة للتغير بمرور الزمن عندما تتوفر لي معلومات إضافية عن الأحداث.
أنا من ناحية المبدأ أقف في صف كل إنسان يدافع عن حريته ضد كل من يحاول الاعتداء على الحريات، ولذلك فأنا أقف مع الأفراد ضد الحكومات، أي أنني مع الروس ضد حكومتهم، ومع الأوكرانيين ضد حكومتهم، ويشمل ذلك أنني أدعم سكان الدونباس ضد حكومتهم المحلية وضد الحكومة المركزية في كييف.
أنا أيضا أقف موقفا مبدئيا مع الناس ضد من يحاولون إثارة الفوضى بينهم، وخصوصا الفوضى الخلاقة، وفي هذه الحالة أدعم الناس وحكومتهم ضد الفوضى الخلاقة في كل مكان، بما في ذلك في أوكرانيا وروسيا وأي مكان استهدفته وتستهدفه الفوضى الخلاقة، وقد عبرت عن ذلك الرأي سابقا هنا وهنا.
أنا أتبنى مبادئ اللاعنف، ولا أوافق على استخدام العنف إلا في حالة الدفاع عن النفس. مما يعني أنني لا أوافق على استخدام العنف في حالة الحرب الاستباقية، أي ما يتم تسويقه على أنه حرب لمنع وقوع الحرب، ولذلك لا يمكنني أن أدعم حربا تستهدف منع سياسيي أوكرانيا من فعل ما يعتبره بعض الروس تهديدا لهم، مثل انضمام أوكرانيا إلى أي تحالف كان.
أنا لا أعتبر أن الاختلاف في العرق أو الاتجاه السياسي مبرر لاستخدام العنف رغم وجود مشاعر الكره. كل إنسان حر في ما يحب ويكره، ولكن لا يحق لأحد أن يعتدي على من يكرههم، ولذلك فاعتبار بعض الروس أن بعض الأوكرانيين نازيون ليس مبررا للحرب، فهذا الادعاء مطاط ويمكن استخدامه في كل مكان وزمان لتبرير أي حرب. بالنسبة لي، تطهير أوكرانيا من النازية أو أي فكر آخر هو بروباغاندا قذرة تغطي أهدافا أقذر.
الاستثناء الوحيد الذي أقبل معه استخدام القوة هو الدفاع عن النفس ضد العدوان، ولذلك فأنا أدعم دفاع سكان الدونباس عن نفسهم ضد عدوان الحكومة المركزية ضدهم، ولو توقف التدخل الروسي عند الدفاع عن سكان الدونباس بناء على استنجادهم بالروس لكان بإمكاني دعم التدخل الروسي، ولكن الروس يجتاحون أوكرانيا ويحاربون أشخاصا لم يعتدوا على الدونباس، مما يحول تدخلهم إلى عدوان، ولذلك فأنا أدعم سكان كييف وبقية المدن الأوكرانية في الدفاع عن نفسهم ضد العدوان الروسي.
ما يحصل في أوكرانيا يسبب تداعيات عالمية، ومنها العقوبات التي تفرضها بعض الدول على روسيا، وموقفي منها مبدئي أيضا، من حق أي شخص أن يختار مع من يعتامل، ولكن ليس من حق أية حكومة أن تمنع أشخاصا من التعامل مع أشخاص آخرين، ولذلك أتفهم أن يمتنع أشخاص ما عن التعامل مع أي شخص روسي، ولكنني لا أقبل أن يمنعني سياسي أو أي أحد من التعامل مع أشخاص أرغب بالتعامل معهم بالطريقة التي نراها مناسبة لنا. وعلى على هذا الأساس فأنا أعارض العقوبات التي يفرضها سياسيون على أشخاص روس وعلى المواطنين الروس بشكل جماعي.
يحاول الإعلام الغربي شيطنة الرئيس بوتين، ورغم أنني أقف مبدئيا ضد الرئيس بوتين وحكمه وأجده حاكما مستبدا ومرتبطا بأجندة التكنوقراط، ورغم أنني أجده يحاول حماية مواطني الدونباس من اعتداءات حكومتهم، فأنا أعتبر أنه يشن حربا عدوانية ضد الشعب الأوكراني إضافة إلى عدوانه على الشعب الروسي، إلا أنني أعارض الهجوم الإعلامي الذي يتعرض فلاديمير بوتين كشخص، ولا أستطيع إلا أن أعبر عن قرفي من كمية الأكاذيب التي تطاله وكمية الفبركات التي يتم اختراعها لشيطنته وشيطنة من يدعمونه، أو لتجميله وتصويره كشخص نبيل أو كرسول ينفذ أوامر إله ما. أنا في هذه الحالة أتبنى موقفي المبدئي ضد البروباغاندا، ولكنني مستعد لإعادة النظر من موقفي من شخص فلاديمير بوتين عندما تتوفر لي معلومات أو حقائق.
يسألني البعض السؤال التقليدي هذه الأيام "هل أنت مع بوتين أم ضده" وبعد أن أشرح لهم موقفي يسألون مرة أخرى "لم أفهم، هل أنت مع بوتين أم ضده". المواقف والآراء المبدئية غير المستندة إلى معلومات بالغة التعقيد، من الصعب تبنيها ومن الصعب شرحها ومن الصعب استيعابها. وبعض الناس لا يعتبرونها موجودة، بالنسبة لهم، الآراء معلبة وكل موقف لا يحمل ختم معمل تعليب الآراء يعتبر فاسدا أو لا يصنف كرأي أصلا، ورأيي بالنسبة لبعض من أناقشهم يمكن اختصاره أنني ضد حرب بوتين في روسيا، وهم يعتبرون أن حلف الناتو يعارض روسيا، ولذلك يمكنهم الاستنتاج أنني أدعم حلف الناتو.
لست مسؤولا عن أخطاء الآخرين المنطقية، ولكنني راغب في توضيح فكرة وجود آراء مبدئية، وأتساءل عن أفضل طريقة لإيصال رأي مبدئي لم تتم صياغته في معامل البروباغاندا إلى من يبحثون عن آراء معلبة؟ حاول نبيل صالح شرح مثل هذا الموقف عندما كتب "ضد الجميع بالتساوي" قبل اندلاع الفوضى الخلاقة في سوريا بثلاثة أيام، وباستيحاء فكرة نبيل صالح يمكن أن أقول أنني ضد الجميع بالتساوي ومع الجميع بالتساوي، أو ضد أخطاء الجميع بالتساوي، ومع حقوق الجميع بالتساوي. ويسعدني جدا أن نبيل صالح وموقعه "الجمل" مازال مفتوحا للآراء غير المعلبة، للآراء "الفلش" التي يستطيع أي كان يأخذ منها ما يشاء، وأن قراءه مازالوا يبحثون عنها.
أصبحت تعرف رأيي، فما رأيك أنت؟ وما موقفك من الآراء الفلش؟
الأيهم صالح
إضافة تعليق جديد