حوليات كركورستان: صوبنة الإنترنت 1

أنا لا أفهم لماذا يعتقد أصدقائي الكركوريون أننا نحن شعب منقارستان لا نرضى أبدا ولا نقبل أي شيء كما هو، فخبرتي معهم ومع من أعرفهم من شعبنا تقول أننا متقاربون جدا في الطباع. ربما كان للتاريخ دور في تشكيل هذه الصورة عن المنقاريين، وفي تشكيل صورة شعب كركورستان الشائعة في منقارستان. أنا أعتقد أن الكركوريبن والمنقاريبن يقبلون بكل سعة صدر كل ما يصدر عن عامل كركورستان أو عامل منقارستان، وكل التعليمات التي تصدر إليهما من الباط العالي. وربما كان الفرق في طريقة العاملين في نشر التعليمات أو صياغة القوانين، ولعل هذا الفرق أوضح ما يمكن في قانون صوبنة الإنترنت الذي صدر عن عامل كركورستان راشد الأسيري. قانون الأسيري لا يختلف في الجوهر عن القانون الذي أصدره عاملنا ولكن الصياغة مختلفة بشكل كبير. مثلا في المادة 1202 من قانون صوبنة الإنترنت في كركورستان نجد

”يلتزم مقدم الخدمات على الإنترنت بتقديم أي معلومات تطلبها منه السلطات الكركورية.”

هذا هو النص الكامل للمادة. المادة 1202 لا تقول أن التزام مقدم الخدمات محدود بمعرفته، ولا بإمكانية حصوله على المعلومات، ولا بعلاقة المعلومات بعمله. في كركورستان أي مقدم خدمات على الشبكة يلتزم بتقديم أي معلومات تطلب منه مهما كانت. يمكن مثلا أن تطلب السلطات الكركورية من مقدم الخدمات أن يروي لهم قصة حياته، أو أن يسرد لهم أسماء النساء أو الرجال الذين ضاجعهم، أو أسماء النساء والرجال الذين ضاجعهم من يعملون لديه، أو أسماء الرجال الذين ضاجعتهم زوجته أو بناته. القانون يلزم من يخضع له بتقديم هذه المعلومات تحت طائلة العقوبة. وإذا رغبت السلطات بالتمادي فربما تطلب من جميع مقدمي الخدمة معلومات عن الرجال الذي تضاجعهم زوجة راشد الأسيري أو بناته وأولاده، وكل من لا يقدم هذه المعلومات سيصبح مجرما وفق القانون. وماذا إذا رغب أحد ممثلي السلطات الكركورية بمعرفة قياس ثقب مؤخرة عامل منقارستان، فهل سيضطر مقدمو الخدمة للسفر إلى منقارستان ومقابلة عاملنا والطلب منه قياس ثقب مؤخرته؟

ليست هذه أكثر مواد القانون غرابة، فهناك مواد بالغة الغرابة، مثلا المادة 1203 تلزم مقدم الخدمة ب

"توفير الوسائل التقنية التي تسمح للمشتركين لديه بمنع وصولهم إلى بعض المواقع الإلكترونية أو بعض أصناف المحتوى الرقمي على الشبكة عند رغبتهم بذلك”.

نعم هذا ما تقوله المادة، وفيها يتوقع المشرع الكركوري أن الكركوريين سيرغبون أن يتم حجب بعض المواقع الالكترونية عنهم، بل أنهم سيطالبون مقدمي الخدمة بحرمانهم قسرا من الاطلاع على بعض المواقع بدل من الامتناع طوعا عن الاطلاع على ما لا يرغبون بالاطلاع عليه. ربما كان المشرع يقصد مساعدة الكركوريين في حماية أمنهم وسلامتهم، فالمعرفة تشكل خطرا على الناس ومن الأفضل أن يساهم الكركوريون بتجهيل أنفسهم بأنفسهم. تخيلوا مثلا أن يكتشف أستاذ للصف الثالث الابتدائي وجود معلومات مختلفة عن المعلومات الموجودة في منهاجه التدريسي، أليس من واجبه يصوبن عقله؟ ألا يجب عليه أن يمنع نفسه من الاطلاع على هذه المعلومات حفاظا على صحته العقلية وأمن ومستقبل الأجيال التي يدرسها. المعرفة المخالفة لكتاب الصف الثالث الابتدائي خطرة جدا، وأنا لا أستغرب أن يحافظ الكركوريون على ثقة عاملهم بهم، ويطلبوا من مقدمي الخدمة منعهم قسرا من الاطلاع على أية معرفة لا توافق ما ينشر في كركورستان.

المواد 1204 و 1205 من قانون الأسيري لصوبنة الإنترنت تلزم مقدم الخدمة بـ

"حفظ نسخة من المحتوى الرقمي المتبادل لديه مع بيانات الحركة التي تُحدد هوية من يساهم في وضع هذا المحتوى"

مما يعني أن الأسيري يريد أن يحتفظ كل مقدمي الخدمة بنسخة عن كل المراسلات التي تمر عبر خدمتهم، وبمعرفة هوية كل من يتراسلون عبر خدماتهم. وهذا طبعا لتحقيق الشفافية المطلقة، فمن غير المسموح أن يتراسل أشخاص بشكل سري أو شخصي عبر الإنترنت في كركورستان، أصلا هل يوجد لدى الكركوريين ما يخفونه عن مقدمي الخدمة؟ أنا لا أظن ذلك، فالكركوريون مثلنا شعب مطيع ويتميز بشفافيته وصراحته في التعامل مع كل الناس، سواء كانوا كركوريين أو منقاريين أو غيرهم. في كركورستان لا توجد أسرار، ولا أحد على الإطلاق يخفي أي شيء عن مقدم الخدمة، بل إن ولاء الكركوريين لمقدمي الخدمة يدفعهم للمساعدة في تطبيق المادة 1202، أي تمكين مقدم الخدمة من تقديم أية معلومات تطلب منه مهما كانت. طبعا لا داعي للحديث عن ملكية المعلومات، فجميع المعلومات التي تنشر على الإنترنت في كركورستنا تصبح ملكا للسلطات الكركورية. أفكار وصور ورسائل ومحادثات الكركوريين ليست ملكا لهم، بل هي ملك للسلطات وسيلتزم مقدمو الخدمة بحفظها للسلطة رغما عنهم، لأن المادة 1206 الواقعة تحت عنوان ”جرائم مقدمي الخدمات على الشبكة" تقول

"يُعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر وغرامة من 20,000,000 داحة كركورية إلى 40,000,000 داحة كركورية، مقدم الخدمات على الشبكة الذي يمتنع عن تنفيذ التزامه بحفظ نسخة من المحتوى الرقمي أو المعلومات المخزنة لديه أو بيانات الحركة التي تسمح بالتحقق من هوية الأشخاص الذين يسهمون في وضع هذا المحتوى على الشبكة، أو يهمل تنفيذ هذا الالتزام.”

بعد هذه المادة تأتي مجموعة مواد متشابهة كلها تحول أي مقدم خدمة في كركورستان إلى مجرم، وتجعل كل من يعمل في مجال الإنترنت عصابة من المجرمين.

ولا يقتصر تجريم قانون الأسيري على مقدمي الخدمات، بل يبدأ بهم ليصل إلى مستخدمي الإنترنت بعدهم، ففي المادة 1225 يعاقب القانون بغرامة لا تقل عن مليون داحة كركورية من يرسل باستخدام الإنترنت رسائل خاصة تحوي قذفا أو تحقيرا لأحد الناس بشكل غير علني، مما يجعل مثلا إرسال صديقة لصديقتها رسالة خاصة تقول "تلك المذيعة قبيحة وغبية" جريمة يعاقب عليها قانون الأسيري. ويعاقب القانون بالسجن من شهرين إلى ستة أشهر إذا قام أحد ما بنشر حقيقة علمية مثل

"توضح الصور والأفلام التي يبثها إعلام كركورستان أن رأس الأسيري لا يحوي قرنين، ولكن ليس من الواضح أنه مؤخرته لا تحوي ذيلا لأن إعلام كركورستان لا ينشر أي صور أو أفلام لمؤخرة العامل، رغم أن احتمال ذلك ضئيل".

وفي المادة 1226 يجعل القانون من يصور شخصا برضاه ثم ينشر الصور على الإنترنت مجرما ويعاقبه بالسجن سنتين على الأقل وبغرامات باهظة إذا اعتبر أن الصور منافية للحشمة أو للحياء، مما يعني أن قضاة الأسيري يستطيعون اعتبار كل صورة امرأة غير محجبة خادشة للحياء، بما فيها صور زوجة الأسيري نفسها مع صديقها الانكليزي على شاطئ سانت تروبي في فرنسا.

هذه الصوبنة تطبق على الإنترنت ولكنها لا تطبق على الإذاعة والتلفزيون، ربما لأن الأسيري يحتكر الإعلام، وموظفوه بالغو النزاهة ولا يمكن أن يقترفوا جرائم مثل نشر محادثات تم الحصول عليها بدون موافقة أصحابها أو عبر إجبار أصحابها على تسجيلها، أو إظهار أشخاص بثياب يمكن أن تعتبرها شرطة الأسيري "خادشة للحشمة والحياء". فقط الناس العاديون ومقدمو خدمة الإنترنت في كركورستان مجرمون، أما الأسيري وموظفوه فهم مطهرون لا ينطقون عن الهوى. ولعل هذا ما يدفع صديقي أحمد للتندر بالأسيري وجماعته عبر تحريف اسمه، فيسميه الأسيدي ويسمي جماعته الأسيديين، ويطلق مجموعة من النكت عن الأسيد الذي يجري في عروقهم ويغذي أدمغتهم التي تصدر مثل هذا القانون الصابوني.

في الحلقات القادمة من هذه السلسلة سأحدثكم أكثر عن كركورستان وشعبها وما ترتكبه جماعة الأسيري بحقهم، ولا يعني هذا أنني أعتبر أن معارضته الإرهابية أفضل منه، فالعامل في كركورستان وفي منقارستان أقل أسيدية بقليل من معارضتهم، ولكنهم يبقون عمالا خاضعين للباط العالي، وهو ما يتحكم بمستوى الأسيد الذي يضخونه في مجتمعاتهم، وكل ما تفعله المعارضة هو محاولة البرهان للباط العالي أنها قادرة على أن تكون أكثر أسيدية من العمال الحاليين.

 

في 29 نيسان 2022

النورسية، منقارستان

 

بابك اليمني

التعليقات

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

دعوة للمشاركة

موقع الأيهم صالح يرحب بالمشاركات والتعليقات ويدعو القراء الراغبين بالمشاركة إلى فتح حساب في الموقع أو تسجيل الدخول إلى حسابهم. المزيد من المعلومات متاح في صفحة المجتمع.