في العالم الآخر لا يصلني من الإعلام التقليدي إلا ما يتسرب عبر بعض المواقع التي أتابعها في مجمع الأخبار على موقعي، وقد لاحظت في الأيام الأخيرة نشاطا مكثفا حول ما يسمى "الأخبار الزائفة" أو ”Fake News”. ما يقال هو أن الإعلام الأمريكي يحمل مسؤولية فشل هيلاري كلينتون في الانتخابات لمواقع الإنترنت التي تطرح آراء مختلفة حول ما يشيعه الإعلام عن عظمتها، ولذلك فقد قرر شن حملة على مصادر المعلومات التي تعارضه، وأعلن ذلك على لسان الممثل باراك أوباما الذي يلعب دور الرئيس الأمريكي في خطاب له من ألمانيا، ثم شارك في الحملة كل من مارك زوكربيرغ مالك فيسبوك وإنستاغرام وواتس أب، وإريك شميدت صاحب شبكة مواقع جوجل بما فيها يوتيوب، ولم يعلن تويتر مشاركته في الحملة لأنه عمليا يحارب الآراء المختلفة منذ عام 2009 وربما قبل ذلك.
ولنضع الحملة في سياقها يمكننا أن نتذكر إحصائية لشركة غالوب Gallup نشرتها في 14 أيلول سبتمبر 2016، أي منذ حوالي شهرين، توضح فيها انخفاض مستوى ثقة الأمريكيين بالإعلام التقليدي إلى أدنى مستوى في تاريخ تنفيذ الإحصائية.
يمكن أن نفهم من الإحصائية أن المجتمع الأمريكي بدأ يفهم دور الإعلام في الهندسة الاجتماعية، ويأخذ موقفا حذرا مما يسوقه الإعلام، ولذلك فرغم الحملة الإعلامية الهائلة لدعم هيلاري كلينتون في كل الإعلام التقليدي الأمريكي، ورغم محاولات تشويه مواقف دونالد ترامب وإرهاب الأمريكيين أو إشعارهم بالذنب إذا دعموه، فقد نجح ترامب في صناديق الاقتراع في مفاجأة صادمة للإعلاميين ولمخططي الهندسة الاجتماعية.
ليس المجتمع الأمريكي وحده من يتحرر من الهندسة الاجتماعية، فقبله شاهدنا فشل حملة شبيهة في بريطانيا، فرغم كل الضخ الإعلامي عن خطر انفصال بريطانيا عن أوروبا، جاء الاستفتاء بنتيجة مخالفة لمخطط الهندسة الاجتماعية الذي نفذه الإعلام.
وفي العام الماضي 2015 شن الإعلام العالمي حملة إرهاب إعلامي ضد اليونان اقترنت بتهديدات حقيقية بتجويع الشعب اليوناني إذا صوت على رفض إغراقه في ديون إضافية، ورغم ذلك فقد صوت اليونانيون لرفض الديون الإضافية. وقبله في عام 2014 صوت اليونانيون لصالح حزب سيريزا رغم كل محاولات الإعلام الغربي لتخويف اليونانيين منه. وضاعف الحزب الديمقراطي السويدي عدد نوابه في البرلمان رغم أن الإعلام السويدي والعالمي يهاجمه باستمرار على أنه حزب نازي.
وفي عام 2013 صوت النواب في بريطانيا ضد مشروع قصف سوريا وعارض أغلب الأمريكيين والأوروبيين التدخل في سوريا رغم الحملة الإعلامية التي رافقت قصف الإرهابيين لغوطة دمشق بالأسلحة الكيماوية.
ومنذ 2011 يدعم أغلبية السوريين الرئيس بشار الأسد وحكومته رغم الحرب الإعلامية المستعرة ضدهم، ورغم كل محاولات الإعلام العالمي لإقناع السوريين أن الأسد يقتلهم.
عندما نضع هذه الأحداث في سياقها، يمكننا أن نستقرئ أن الإعلام التقليدي يفقد سيطرته على المجتمعات بالتدريج، وأن الأساليب التقليدية للهندسة الاجتماعية التي كانت ناجحة منذ مطلع القرن العشرين لم تعد فعالة هذه الأيام. فالناس في الكثير من المجتمعات أصبحوا يأخذون مواقف مناقضة لما يريده الإعلام، وكلما ازداد الإعلام شراسة ازداد الناس مناعة ضده.
بالنسبة لمهندسي المجتمعات، أهم سلاح من أسلحتهم يفقد تأثيره، ولذلك فهم مضطرون لفعل شيء ما قبل أن تفلت المجتمعات من تأثيرهم، ويبدو أن ما قرروا فعله هو محاربة انتشار مصادر المعلومات الأخرى. لا مشكلة في ذلك، فالناس كما يبدو يزدادون وعيا، وكلما ازداد الإعلام التقليدي شراسة سيزداد ابتعاد الناس عنه، وسينتقل المزيد منهم إلى العالم الآخر. وإذا صدق حدسي، فسيزداد المهندسون الاجتماعيون إرهابا، وسينتقلون إلى الاستهداف الشخصي لمن يعارضهم قبل أن يخرج بينهم إدوارد بيرني جديد يطور أدوات للهندسة الاجتماعية في القرن الحادي والعشرين.
لا أشعر بالوحدة في العالم الآخر حاليا، ولكنني أحس أن عالمي سيصبح صاخبا خلال فترة قريبة.
الأيهم صالح
إضافة تعليق جديد