كنت قد وعدتكم بالحديث عن انطلاق التكنوقراط من جامعة كولومبيا في نيويورك، ولكن الآراء التي وصلتني شجعتني على تطوير السلسلة باتجاه الحاضر والمستقبل. يستطيع المهتمون بتاريخ حركة التكنوقراط قراءة أهم توثيق لها في كتاب Technocracy Rising لباتريك وود Patrick Wood. في ذلك الكتاب يوثق وود نشوء الحركة وأهم مفكريها وكتبها وكيف تم تبنيها من قبل رجال المال، والخطط التي وضعوها ونفذوها خلال القرن الماضي للسيطرة على الاقتصاد والحكومات والأديان والقوانين والتعليم في العديد من دول العالم، وأهم رجال المال والاقتصاد والسياسة الذين ينتمون إليها. إضافة لذلك، يدير باتريك وود موقع technocracy.news المخصص لمتابعة تطورات مخططات التكنوقراط.
من المهم أن نفهم أن التكنوقراطية مجرد فلسفة، ولكن التكنوقراط بشر لديهم مخططات وأهداف. قراءتنا للتكنوقراطية تساعدنا على فهم طريقة تفكير التكنوقراط وبالتالي محاولة توقع مخططاتهم وأهدافهم، وتساعدنا أيضا على معرفة من يمكن أن يتحالف معهم ومن يمكن أن يعارضهم.
التكنوقراطية كفلسفة تفضل مصلحة المجتمع على مصلحة الفرد، ولذلك يمكن اعتبارها فلسفة شمولية collectivist. تاريخ الفلسفات الشمولية مقترن ببعض أكبر المذابح في التاريخ، فبعضها تحول إلى إيديولوجيات شمولية تبناها أشخاص استخدموها للسيطرة على دول كبرى وصغيرة. الشيوعية مثلا إيدولوجيا شمولية مازالت تحكم كوبا والصين وكوريا الشمالية، والقومية بأشكالها المختلفة، ومنها القومية الوطنية والقومية الاشتراكية، إيديولوجيا شمولية حكمت عشرات الدول في الماضي وهي أساس فلسفة الأحزاب القومية العربية. الديانات الابراهيمية تعتبر أيضا إيديولوجيات شمولية، لأنها تتطلب تضحية من الفرد لصالح الجماعة.
هذا النوع من الإيديولوجيات يسيطر على أعداد كبيرة من الناس ويوجه نشاطها باتجاه ما يسمى "الخير المشترك" أو "المصير المشترك" أو "أهدافنا" والذي يكون عادة حلما خلبيا مستحيل التحقيق في الواقع، ولكن الإيديولوجيا تقول أن تحقيق هذا الهدف النبيل يتطلب كميات هائلة من التضحيات أولها الخضوع المطلق لسيطرة زعماء الإيديولوجيا. يؤدي خضوع الناس لهذه الإيديولوجيات إلى خسارتهم أثمن ما يملكون، بما في ذلك حريتهم وحياتهم أحيانا.
على مقياس الطيف السياسي نجد أن الإيديولوجيات الشمولية تسيطر على اليمين واليسار، فاليمين عادة ما يكون إيديولوجيا وطنية أو دينية، واليسار عادة ما يكون إيديولوجيا شيوعية أو اشتراكية. وكلا الاتجاهين إيديولوجيا شمولية، ولذلك تبدو سياسات اليمين واليسار منسجمة مع بعضها في تعزيز سيطرة الدولة على الأفراد ونهبهم أو سجنهم أو قمعهم بحجة المصلحة العامة، وهي بذلك تنسجم مع سياسات الحوكمة الشاملة التي يقودها التكنوقراط حاليا.
أما أحزاب الوسط، وهي عادة أحزاب ليبرالية أو تمثل بعض المصالح، فهي في العادة أحزاب غير عقائدية ولذلك لا تستطيع اجتذاب جمهور كبير، وتبقى عادة في مهب تجاذبات اليمين واليسار. هذا الوضع يفرز عادة قيادات من ضمنها قادرة على تطويع أهداف الحزب لتحقيق المكاسب السياسية والمنافع الشخصية.
قد تختلف التفاصيل في بعض الدول، ولكن بشكل عام ينسجم أغلب الطيف السياسي في أغلب دول العالم مع مخططات الحوكمة الشاملة من ناحية المبادئ والمنافع الشخصية، وينعكس هذا في تبني كل أشكال الحكومات مهما كان اتجاهها لسياسات الحوكمة الشاملة. يعتقد السياسيون أن الحوكمة الشاملة تخدم أهدافهم في السيطرة على مجتمعاتهم، ولكنهم لا يملكون بعد النظر الكافي ليدركوا أن أهداف الحوكمة الشاملة المعلنة عمليا هي السيطرة على الشعوب كلها، وإلغاء دور الاقتصاديين والسياسيين.
يعرف من يعملون في قطاعات التعليم والصحة والثقافة والمال والتكنولوجيا وغيرها أن أغلب سياساتهم تصنع في خارج دولهم. مثلا سياسات الصحة تصدر من منظمة الصحة العالمية أو من منظمات إقليمية مثل الاتحاد الأوروبي والإسكوا وغيرها، وبيروقراطيو الصحة يمتثلون لها وينفذونها كما هي. وفي الأزمة الحالية وافقت الحكومات على ترخيص بعض اللقاحات دون دراستها، واعتمادا على موافقة جهات أخرى. هذا السلوك جديد على السياسيين، فمنذ ثلاثين عاما كان وزراء الصحة يعتبرون أن ترخيص الأدوية الجديدة مسؤولية وزاراتهم، وهم بذلك يتقاضون رسوما لدراسة التراخيص، ويعتبرون أنهم مسؤولون عن صحة مواطنيهم. خلال العقود الماضية تم تغيير القوانين في الكثير من دول العالم، وبينها دول أوروبا الغربية مثلا، لتفويض جهات خارجية بدراسة طلبات ترخيص الأدوية الجديدة، بحيث فقدت وزارات الصحة سيطرتها على سوق الدواء في دولها، وانتقل دورها من مسيطر على السوق إلى مجرد مسوق، وهذا ما اتضح بجلاء في أزمة كوفيد. ومؤخرا مع بدء فرض جوازات السفر المناعية ستصبح إدارة المعلومات الطبية للمواطنين من اختصاص جهات خارجية، مما يعني تقزيما إضافيا لدور وزارات الصحة وبيروقراطييها، إضافة إلى انتزاع بعض الصلاحيات من وزارات الداخلية والخارجية في الدول.
وفي مجال التعليم تتجه أغلب جامعات العالم إلى تبني أهداف التنمية المستدامة (أي أهداف الحوكمة الشاملة) كاستراتيجية تعليمية، مما يعني أن الجامعات وبيروقراطيي التعليم يطبقون استراتيجيات خارجية بدل أن يكونوا صناع استراتيجيات محلية، ويجري حاليا تطوير نظم تقييم الجامعات لتشمل انسجامها مع أهداف التنمية المستدامة، مما سيزيد سيطرة الحوكمة الشاملة على قطاع التعليم في كل مكان في العالم.
يمكن ملاحظة تقزيم دور البيروقراطيين المحليين في كل المجالات، وما كانت النخب التي تواجه الحوكمة الشاملة تتحدث عنه سابقا أصبح الآن حديث الشارع لأن الأدلة عليه أصبحت واضحة للعيان. إضافة لذلك، أعتقد أن الكثيرين من البيروقراطيين بدؤوا يفهمون أن مصير عملهم هو حاوية النفايات، ولذلك تجدهم يتسابقون على تحقيق أسرع المكاسب طالما كان ذلك ممكنا.
علمتنا تجارب التاريخ أن مقاومة النظام الشمولي قبل استقراره أسهل بكثير من إسقاطه بعد استقراره، وأن الثمن الذي يدفعه المجتمع لمنع إنشاء النظام الشمولي أقل بكثير من الثمن الذي يدفعه مجتمع يحكمه نظام شمولي. التكنوقراط يريدون إنشاء نظام شمولي عالمي، والوقوف في وجه هذا المخطط لا يعني الدفاع عن البيروقراطيين، ولا يعني استبدال السياسيين بسياسيين آخرين. أعتقد أن إسقاط المخطط الشمولي يبدأ بالأفراد، بإدراك كل منا لقيمته كفرد ولحريته ولأهمية قراره الشخصي، ولذلك أركز دائما أهمية قرار رفض الخضوع، قول لا بشكل فردي علنا، ثم تطوير قرار رفض الخضوع بكل الاتجاهات المتاحة. لا أعتقد أن هناك حزبا أو تيارا سياسيا أو اجتماعيا أو قائدا جماهيريا يستطيع أن يسقط مخطط الحوكمة الشاملة، ولكن عددا كافيا من الأفراد الذين يرفضون الخضوع علنا بناء على قناعتهم الشخصية يمكن أن يمنع استقرار الحوكمة الشاملة. وعندما يزداد هذا العدد بالتدريج، أعتقد أنهم سيعملون على إنشاء بنى لامركزية تستبدل البنى المركزية التي تبنيها الحوكمة الشاملة، وبذلك سيزعزعون أساس مخطط الحوكمة الشاملة وسيضعفون تأثيره عليهم وعلى مجتمعاتهم المحلية وبمرور الوقت وتوسع هذه البنى اللامركزية سيصبح مخطط الحوكمة الشاملة عديم التأثير في بعض المناطق، وستتطور معركة جديدة بظروف مختلفة عن الظروف التي نعيشها حاليا.
أنا أعلن رفض الخضوع، ولا أشعر أنني وحيد في ذلك، فملايين الناس يتظاهرون ضد هذا المخطط ويعلنون رفض الخضوع، وهي الخطوة الأولى للمقاومة. ولكن مهما زادت المظاهرات، وحتى لو تمكنت من احتلال الساحات بشكل مستمر لمدة عام كامل، فهي لن تستطيع إسقاط مخطط التكنوقراط. في الكثير من الأماكن يتم استغلال التظاهرات لتخفيض المطالب، فبدلا من رفض الخضوع أو شعار الحرية يتم رفع شعارات مثل تخفيف القيود التي تفرضها الحوكمة الشاملة أحيانا. الأمل الأساسي في إسقاط مخطط التكنوقراط في بعض الأماكن هو وعي الناس لكون البيروقراطيين والساسة أداة مخطط التكنوقراط، ولذلك فالحل ليس المطالبة باستعادة سلطة البيروقراطيين والساسة، بل بإنشاء بنى لامركزية بديلة للبنى التي كانت قائمة في السابق ويدمرها التكنوقراط وأدواتهم حاليا. هناك عدد كبير من البنى اللامركزية التي تظهر في كل مكان في العالم، وسأذكر بعض الأمثلة عليها في السلسلة التي سأصدرها بعد هذه السلسلة. والمميز فيها جميعا أنها لا تطرح نفسها كبنى شمولية، ولا تفرض أي شيء على أحد، بل تضع أسسا جديدة يستطيع من يرغب أن يعتمدها أو ينضم إليها. أنا أعتقد أن أمل جيلنا بمستقبل أفضل لأطفالنا يعتمد على تطور هذا النوع من البنى اللامركزية في المجتمع الذي نعيش فيه.
ما موقفك أنت؟ هل ترغب بإعلان حريتك واستقلالك، وبالمساهمة في بناء مستقبل أفضل لأطفالك؟
الأيهم صالح
إضافة تعليق جديد