في مقالاتي السابقة تحدثت عن خطة التكنوقراط المسماة الحوكمة الشاملة global governance والتي تهدف باختصار لإدارة الكرة الأرضية والفضاء المحيط بها بشكل مركزي من قبلهم. بعد نشر المقالة الثالثة جاءتني عدة رسائل تطلب مني الحديث عن مقاومة هذه الخطة بدل التوسع في تاريخ التكنوقراط وشرح خطتهم، كما وصلتني آراء تشجعني على وضع خطة التكنوقراط في سياقها التاريخي والتوسع في الحديث عنها بسبب نقص الوثائق العربية عن الموضوع. ولتلبية رغبة القراء قررت بدء سلسلة مقالات مخصصة لمقاومة التكنوقراط، وهذه أول موادها.
التكنوقراطية فلسفة شمولية collectivist تفضل ما يسمى "المصلحة العامة" على مصلحة الأفراد، وأهم فلسفة تواجهها برأيي هي الفلسفة التحررية Libertarianism التي تستند على القانون الطبيعي Natural Law. هناك عدة تعاريف للقانون الطبيعي، وأكثرها وضوحا برأيي هو تعريف مارك باسيو في هذه المحاضرة والذي يقول:
"القانون الطبيعي هو هيكل متكامل من القيود الحتمية الأزلية التي تحكم نتائج الأفعال بدون تدخل من البشر.”
حسب مارك باسيو:
-
القانون الطبيعي حتمي بمعنى أنه ينطبق في كل الحالات، ولا يمكن تجنب تطبيقه بحجة عدم المعرفة أو عدم الاكتراث به أو عدم الاعتراف به أو بأية حجة أخرى.
-
القانون الطبيعي أزلي بمعنى أنه ينطبق منذ بدء الكون ولا يمكن إزالته حتى فناء الكون.
-
القانون الطبيعي مفروض على البشر، ولا يمكن للبشر تجاوزه أو تغييره.
يشمل القانون الطبيعي ما يسمى القوانين العلمية الموجودة في الطبيعة، والتي تحكم سلوك المواد في الطبيعة، ولكنه لا يشمل فهم البشر أو صياغتهم لهذه القوانين، فهذه الصياغة تدخل في مجال ما يسميه داروين وأنصاره "قوانين الطبيعة" وهي مجرد ملاحظات من البشر حول ما يحصل في الطبيعة، وليست قوانين حتمية أزلية تحكم نتائج الأفعال في الطبيعة بشكل مستقل عن إرادة البشر ومشاعرهم.
حسب القانون الطبيعي، الحق هو أي سلوك يمارسه أي إنسان بدون أن يسبب أي أذى مباشر لأي إنسان آخر. لا يمكن تحديد الحقوق ضمن القانون الطبيعي، لأن كل شيء مسموح طالما لا يؤذي أحدا. لا يشمل القانون الطبيعي نصوصا مثل أن من حق الإنسان التكلم أو الحركة أو تناول الطعام أو فعل أشياء كثيرة أخرى، القانون الطبيعي يضع قواعد فقط لمنع البشر من تسبيب الضرر لبعضهم.
يعبر مارك باسيو عن قواعد القانون الطبيعي بعبارة مختصرة جدا، "لا تسلب" (المصدر). وتطبيق هذه القاعدة يعني أنه لا يحق لأحد أن يسلب الآخرين حقهم في الحرية ولا في الحياة ولا في الملكية ولا الأمن ولا الصحة ولا المعرفة ولا في اتخاذ قرارهم المستقل ولا أي حق آخر من حقوقهم. يسمي بعض التحرريين هذه القاعدة "مبدأ عدم الاعتداء" Non Aggression Principle
القانون الطبيعي هو أساس أغلب التشريعات في العالم، وجميع الدول تستند إليه في صياغة دساتيرها وقوانينها البشرية. مثلا تستند عبارات "يولد البشر أحرارا" و "البشر متساوون" إلى القانون الطبيعي.
لمزيد من الاطلاع على فكر القانون الطبيعي أدعوكم لمراجعة سلسلة "حوار معك" التي أصدرتها على شكل ملفات صوتية العام الماضي.
في العالم حاليا عدة إيديولوجيات تستند إلى الفلسفة التحررية، وأغلب معتنقي هذه الإيديولوجيات يقفون بشكل حازم ضد الحوكمة الشاملة وسياسات التكنوقراط، ولكن لكل إيديولوجيا اتجاها مختلفا ونظرة خاصة للمجتمع. أنا لا أنتمى إلى أية إيديولوجيا منها، وطريقتي في مواجهة الحوكمة الشاملة تعتمد على شرح المبادئ والأفكار الأساسية للناس، وترك حرية القرار لهم في ما يفعلونه. هذا ما فعلته سابقا في سلسلة حوار معك وفي كتاباتي الأخيرة، مثل قراءاتي في فكر توم كووان وفي فكر ماتياس ديسميت، ثم في سلسلة الدين العلمي.
خلال هذه السلسلة سأستعرض عددا من الإيديولوجيات، وسأذكر أبرز مفكريها وبعض مشاريعها الحالية. وفي كل حلقة سأقارن الإيديولوجيا التي أذكرها مع ما سبقها. أول إيديولوجيا تحررية نستعرضها هي الأغورية، وهي إيديولوجيا تستند إلى القانون الطبيعي ومبدأ عدم الإعتداء وترفض التسلط على الآخرين والخضوع لتسلط الآخرين.
تستند الأغورية إلى فكر سامويل كونكين الثالث Samuel Edward Konkin III وهو كاتب أمريكي توفي عام 2004 ويعتبر مؤسس فكرة الاقتصاد المقاوم counter economics. يعتبر كونكين أن الاقتصاد المقاوم هو كل تعامل منسجم مع مبدأ عدم الاعتداء بما في ذلك التعاملات التي تمنعها السلطة، وفكرة الاقتصاد المقاوم تؤسس لقيام ما يسمى "السوق السوداء" أو "السوق الرمادية" لتنفيذ التعاملات التي تمنعها السلطة صراحة و التعاملات التي لا تمنعها ولا تشرعها السلطة. يعتبر كونكين أن السوق السوداء هي أهم وسيلة لمواجهة تسلط البيروقراطية والسياسة، وتشمل السوق التجارية والخدمية إضافة إلى سوق الأفكار والنشاطات التي تمنعها الدولة.
أنصار الأغورية يعتبرون أن من حق أي شخص أن يؤمن بأي معتقد، وأن يفعل بنفسه ما يشاء. لا تمانع الأغورية في أن يخضع أي شخص للحوكمة الشاملة أو للبيروقراطية أو للدين أو لأي نظام طوطمي آخر، ولا تمانع في التعامل مع أي كان بناء على مبدأ عدم الاعتداء، ولذلك فالأغورية ليست تبشيرية ولا تعمل لتغيير قناعات الناس ولا تملك أهدافا جماعية.
يمكن تطبيق الأغورية ببساطة، فمثلا عندما عندما تفرض السلطة على الناس الحصول على شهادة ما لتناول الطعام في مطعم، ويتجاهل عمال المطعم ذلك الفرض في التعامل مع أحد الزبائن، فهم يشاركون في الاقتصاد المقاوم حتى لو كانوا يطبقون ذلك الفرض على الزبائن الذين يقبلون تطبيقه عليهم.
تشمل الأغورية توزيع الرسوم والمقالات التي تمنعها السلطة، والكتابة في المجلات التي لا توافق عليها السلطة، ونشر الأفكار التي لا توافق عليها السلطة أو تعتبرها نظريات مؤامرة، ورسوم الغرافيتي التي تمنعها أو لا توافق عليها السلطة، وممارسة الرياضة التي تمنعها أو لا توافق عليها السلطة، وتنفس الهواء النقي عندما تمنع السلطة ذلك. كل هذا وما يشبهه إغناء للاقتصاد المقاوم، وإضعاف للسلطة.
كإيديولوجيا تحررية، تقلل الأغورية بالتدريج سيطرة السلطة على حياة البشر، وتضعف أدوات تحكم السلطة وسيطرتها على المجتمع، وتؤدي بالنتيجة إلى تقزيم دور السلطة بدون خوض مواجهات كبيرة معها، وتعرف السلطة ذلك، ولذلك تخصص أقسى العقوبات للأغوريين، فمثلا عاقبت السلطة في أمريكا روس أولبريشت Ross Ulbricht صاحب أول موقع إنترنت أغوري بالسجن مدى الحياة مرتين زائد السجن أربعين عاما بدون احتمال إطلاق سراح مشروط رغم أنه لم يقتل أحدا ولم يعتد على أحد وكل ما استطاعت إثباته بحق روس هو أنه أدار موقع إنترنت.
لا يلجأ أنصار الأغورية إلى المظاهرات والاحتجاجات ولا إلى النشاطات التي تحدث ضجة إعلامية، بل يركزون على فعل ما يريدونه بالطريقة التي يتفقون عليها مع الآخرين، ولكنهم غالبا ما يدعمون من يعارض السلطة بواسطة الاقتصاد المقاوم، مما يجعل الاقتصاد المقاوم أحد أهم الأدوات التي يمكن أن يستخدمها كل من يعارضون السلطة، حتى لو لم يكونوا من أنصار الأغورية.
أعتقد أن ديريك بروز هو أنشط وجوه الأغورية هذه الأيام،وهو كاتب وصحفي أمريكي أعاد تحقيق ونشر أوراق سامويل كونكين، ويدير حاليا عدة مشاريع مميزة تحت إطار شبكة المقاومة The Conscious Resistance أذكر منها مثلا مشروع The underground railroad، وهو مشروع يديره ديريك بروز لمساعدة العائلات الأمريكية الراغبة بالهجرة من أمريكا إلى المكسيك، ومشروع The Greater Reset Activation الذي يتعاون فيه ديريك بروز مع جون بوش مؤسس شبكة الخلايا الحرة the freedom cell network لنشر أفكار كل من يرغبون بمقاومة التكنوقراط.
أعتقد أن أسلوب ديريك بروز لا يجذب الكثيرين إلى فكر الأغورية، كما أن أسلوب أهم أستاذ للأغورية هذه الأيام، وهو جيمس كوربت، ليس أكثر تأثيرا. ربما لأن الأغورية كفكر تركز على العمل وإيجاد الحلول العملية بدلا من تجييش الجماهير، ولذلك يستطيع أي كان أن يساهم فيها عبر المساهمة في الاقتصاد المقاوم مهما كان موقفه من أفكار أو شخصيات الأغورية.
أية مقاومة للسلطة تستند على مبدأ عدم الاعتداء هي مشاركة في الأغورية، وتغني الاقتصاد المقاوم. بما في ذلك مجرد الحديث عن المقاومة أو الحديث عن الأغورية أو إرسال هذه المادة إلى أصدقائك. كل ما تفعله خارج أوامر السلطة يغني الاقتصاد المقاوم، ويضعف السلطة، فهل تريد أن تشارك في المقاومة؟
الأيهم صالح
التعليقات
من ستر مؤمن يستره الله في يوم لاضل اللا ضله
اخوكم فالله المسامح بسام سعيد مجرم الراب
In reply to من ستر مؤمن يستره الله في يوم لاضل اللا ضله by انفنت بسام (لم يتم التحقق)
📞
✌️🏃🏾
W
G
إضافة تعليق جديد